الخميس، 2 أبريل 2009
أيام التخزين

استيقظت مبكرا كعادتي
وقفت في البلكونة كما أحب دوما لمشاهدة الناس يعاودون طرقهم لرصيف الشارع
والمحلات في اعتياد للمنظر
محاولا معرفة من جاء أولا
ومارست شرودي الذي اعتدته مؤخرا
لكي أستطيع مواجهة ما سيحدث اليوم
لأتخيل نفسي يوما أحاوره
وإن بدا جليا إن اليوم سيكون مختلف
كل ما أردته يوما أن يراني
كل ما أردته يوما أن يشعر بوجودي
كل ما أردته يوما صدرا يحويني
ويدا تحنو علي
كل ما أردته دوما كان أبا
أبي
أبي عاد إلي البيت بعد سنين اغتراب تجاوزت العشرين
و تجاوز خلالها أن يرى أبناءه يكبرون بين يديه
عاد ليلحق بزيجة أخر بناته
ثم قام بتحمل نفقات ابنه البكر وزوجه من عروس أختارها
ليخلو البيت من الأبناء والبنات ولا يبقى له غيري وأمي..
عاد أبي
عاد ليعوض كل ما فاته من أبوة
ليوجه ويرشد ويأمر ويطاع ويعطي ويمنع
عاد ليقف عند الباب ينظر في ساعته ويقول
الساعة تعدت العاشرة أين كنت حتى الآن؟
ويشير لساعة يده كأنني لا أستطيع معرفة ماهية ذاك الاختراع
يعقبها بعبارات من نوع أي أشخاص محترمون يمكثون خارج المنزل حتى الآن
مع محاولات مني لتزيين جملا تحمل معنى مشابه
أبي فاته في الغربة أن يرى أبناءه يضحكون ويبكون
يذاكرون فينجحون أو يتعثرون
فاته أن يكون غير ما تعود أن يكون
زائرا يحمل الأموال والهدايا والتهاني والقبلات بين العيون
لن أجحفه حقه
غربته أغلبها كانت من أجلنا
لكننا كنا نحتاج أبا أكثر من المال
ولن أنكر أنه عندما كان يعود في الأجازات كان يحاول أن يعوضنا غيابه
فيأخذنا في رحلات ترفيهية للأهرامات والحدائق و..........لا أتذكر
لكن أو تعلم يا أبي
كنت أصغر من أن أتذكر
كنت أصغر من أن أكون ذكرياتي معك
أو تعلم أيضا
من صغري نظرا للزحمة بين الأشقاء والشقيقات تعودت أن أكون وحيدا من أمي
ولكنني كبرت وتخرجت وأصبح لي وظيفة
ويوما عاد أبي
عاد ليعوض ما فاته من تربية لأبنائه
كله شوق لأن يكون أبا أخيرا
عاد وجدني في الخامسة والعشرين
عاد ليجدني رجلا مسئولا عن حياتي
أعمل
أنال احترام الجميع إلا هو
تجاهل كل ذلك
لم يرى في سوى ذاك الطفل الذي طالما تعلق به في فرح
عندما كان يصيح أخوتي ويجرون نحوه في فرح كلما عاد
عاد ليعيد الزمن للوراء ويعيدني معه
كل يوم نفس الجدال العقيم
كل يوم نفس السجال الغشيم
يأبى أبي أن يرى في رجلا
أن يحدثني كرجل
أن يعاملني كرجل
وأنا في أمس الحاجة لثقته في
لرؤيته يفخر بي
لا أن يزيد في إهانتي
وتسفيه أحلامي والسخرية من كل أفعالي أمام الصغير والكبير
عاد أبي
فأنكر حقي في أن أكون
أنكر حقي في حياتي
أبدلني بدلا منها حياة طفل
مليئة بالتوجيه والتصويب والرفض والإهانة
والصفع أحيانا
أهكذا تكون الأبوة إذن
يمكنني أن أتحملها
لن ألومه
ولكن من ألوم
حين أرى أبي جالسا مع أخوتي أو أقربائي أكبر مني أو أصغر مني سنا
يحدثهم ويسمعهم في كل شيء وأي شيء
متجاهلا وجودي
ساخرا من أرائي التي تصدر مني على خجل ظاهر
من ألوم؟
ثم دخلت في متاهة
بدأت ألوم نفسي علي تفاهتي
وعلى ضعفي
وعلى سوء اختياراتي
وعلى كوني كل ما أنا عليه
وعلى كوني لست كل ما يريده أبي أن أكونه
وأصبح كل يوم يعني عندي البقاء حيا
متماسكا
هادئا
أمام أبي عندما يسخر من ملابسي
فأغيرها
من نظارتي
فأخلعها
من قصة شعري
فأحاول محوها
من طريقة مشيي
من أصدقائي
من حزام بنطلوني
من حذائي
مني
فأدخل غرفتي سريعا حتى لا يلمح دمعتي
يغتالها من على خدي
ويسخر من كوني لست رجلا..!!
ومن بكائي كالأطفال
كنت كل ليلة أقرر أنني سأخرج يوما من هذا الباب ولن أعود يوما
كل يوم كان متشابه مع ما سبقه
شبيها لما يليه
حتى كانت ليلة أمس
أبي يريد أن يزوجني (بعد إلحاح من أمي)
لم أعقب بغير إن شاء الله
ودخلت غرفتي وليلتها لم أنم
سعادتي لم تتركني أدخل مملكة النوم
كنت لأول مرة أحس أنني فرح كطفل صغير ينتظر أن يأتي الصباح ليخرج في عيد
كانت هي أول ليلة تحمل موقفا يدل على أن أبي يراني رجلا
وإن كان علي مضض
ولم أكن لأضيعها
انتشلني من شرودي صوت أمي لتنبهني لأنها أعددت الإفطار
وبينما نحن نتناول الإفطار
وأمي تناديني بالعريس ألقيت عليهم رأيي
لن أتزوج اتسعت عينا أمي في ذهول
وأبي تجهم وجهه في استعداد لإطلاق إحدى حملاته العسكرية للقضاء على فلول العدو
رفضت طلبهم
لم أكبر اليوم عند أبي ليدخلني سجنا أخر
لينفق على زواجي ونفقاتي
لم أكن لأعطيه هذا السبب
لأبقى في عينيه طفلا صغيرا للأبد
لن أعطيه سببا
كما لم أعطيه عندما عاد من غربته واستقر بيننا
أخبرته أنني كنت أنوي السفر
ورتبت لكل شيء وكنت في انتظار انتهاء الأوراق
وقد انتهت
ولا أريد منهم غير الموافقة والدعاء
ازداد الغضب البادي على وجه أبي
ولم يتكلم
أعقبت إنها فرصة وأصدقائي كلهم سافروا بنفس الطريقة
وعادوا أحسن حالا مع ما في الأمر من مخاطرة
ثم ألقيت جملة ليلتقطها أبي
"المهم تدعون لي
ولو لم ييسر لي الله خير سأعود
وعندها أكون قد حاولت
وسأنفذ لكم طلبكم بالزواج"
والتقط أبي الطعم ولم يدم رفضه طويلا
وافق
وافق لأنه تخيل أنني سأجرب وأفشل بعيدا عنه
فأعود إليه لأحتمي به كطفل صغير
وادفن فشلي تحت قدميه
فيخبرني في إباء أنه نبهني ولم أسمع نصيحته
أنهيت استخراج الأوراق المطلوبة ثم تجهزت
ودعت أمي في لهفة
وودعني أبي ببرود ينم على انه منتظر عودتي قريبا
كان المخطط أن أسافر إلي ليبيا
ومنها تأخذنا سفينة لسواحل إيطاليا
وصلت ليبيا
ومنها للتخزين
ولمن لا يعلم التخزين
هو وضع لا إنساني يشبه....... عفوا ..لا يشبه شيئا..
هو ببساطة أن تكون بين مائتي شخص في مكان لا يتسع إلا لـ خمسون شخص
وهؤلاء ألـ 50 لا يمكن أن يكونوا بشرا أصلا
مطالبين بالصمت بل بالخرس حتى لا تكتشفهم الشرطة
مزيد من الإهانة
مزيد من الأوضاع اللا إنسانية
بحكم أنك لا شيء لديك سوى الوقت والانتظار لأكثر من خمسة عشر يوما
لا تملك إلا أن تختلط بهم
تجدك مع خريجي كليات العلوم وتربية وفنون
وخريجي معاهد متوسطة
وثانوي صناعي
وأميين
أشخاص وفئات لا تجدها مجتمعة إلا في التخزين
الكل يبحث عن فرصة ليثبت أنه حي أمام وطن صنفه على أنه طفل
بل لا شيء
أو ليعيل أهله
أو ليجد نفسه التي سرقت في وطنه
ليستطيع أن يحلم
ليعود يوما كاملا بلا عيب
عل وطنه يقبله عندما يعود
أو تعلم يا أبي
إذا عدنا سنكون أحدا آخر لا تعرفونه
وإن ابتلعنا البحر
فسوف تحيى ندما
لأنك فقدت ابن لم تعرفه يوما..
ولن تعرفه
وكلكم ستبكوننا..

قلم / إيمان عبد الحميد
1 Comments:
قصتك رائعة يا إيمان
وموجعة ايضاً

تحياتي لقلمك المميز