الجمعة، 27 فبراير 2009
شاعر الحمامات - قصة قصيرة








في أحد أزقة مصر البعيدة.. و في أحد البيوت القديمة القصيرة..
اختار ولم يختار.. ذلك المدعو (محمد عبد الستار).. أن يعيش على السطح ..
في غرفة صغيرة لدرجة الملل.. بها سرير ( ايديال) قديم جدا.. وخمسة أرفف خشبية مثبتة بإحكام على الحائط ..
رفوف تملؤها.. و تثقلها.. و تحيط بها الكثير والكثير من الكتب...
وشماعة صغيرة معلقة على مسمار غير مثبت جيدا بالباب.. والباب غير مثبت جيدا بالغرفة.. والغرفة يجاورها برج حمام عالي.. عالي جدا.. ولكن هجره الحمام..
و( قصرية زرع) بها أعواد ريحان.. و أخرى بها حلبة حصى ..
و( كنبة أسيوطي) برجل مخلخلة..
ومصباح.. و براح.. براح يملأ ذلك السطح لدرجة الصقيع ..

كان ذلك المدعو عبد الستار يلقب نفسه بشاعر الزقاق المجهول.. كان يعشق الشعر لدرجة تفوق الخيال..
لم يكن هناك ما يسعده أكثر من قراءة ديوان ينام إثر قرائته.. ليستيقظ راكضا إلى عمله في الصباح.. في يده ديوان لم يكتمل .. وفي قلبه نشواه بشعره..
كان يعمل كعامل نظافة بسيط في حمّامات إحدى الفنادق الكبرى في القاهرة..
و بالطبع كان ما يتلقاه من أجر أزهد من أن يمكنه من شراء ما يحتاج إليه من الكتب ..

ولكن لأن (عم عصام) صاحب المكتبة الصغيرة الكائنة على أول الشارع كان يحب والده كثيرا.. و يشفق على يتمه المبكر..
كان يعيره ما يرغب من الكتب ليقرأها ثم يعيدها إلى المكتبة بشرط أن يحافظ عليها..

كان عبد الستار لا يجد أدنى مشكلة في الحفاظ على الكتب.. فقد كان يعشقها و يعاملها كملوك متوجة على عرش أرففه الصغيرة..
وربما لأن عمله في الحمّامات جعله يرى الكثير من قذارات الناس.. كان دوما يسري بداخله شعور جامح للتخلص من أي قذارات أو شوائب يمكن أن تصيب حياته.. أو جسده.. أو نفسه.. أو أي مساحة تحيطه..
كان عبد الستار دوما يقول أن هنالك تشابها كبيرا بين الشعر و الحمّام .. فكلاهما بعد الانتهاء يشعرانك بالراحة و النشوى.. و النظافة...

عبد الستار انسان غير متشائم.. وغير متفائل..
ربما لأنه تشائم كثيرا.. فلم يتغير الكون..
ثم تفائل كثيرا.. ولم يتغير الكون..
لقد فقد الاحساس بأي شيئ.. سوى الاحساس بالشعر..
و الاحساس بتناقض الأشياء..
حتى هامشيته في الحياة.. لم تعد تهمه..
حتى الحزن..
اعتاده حتى لم يعد يشعر به إلا في الشعر..
حتى الحب....
لم يكن له نصيب منه .. إلا في الشعر..
يذكر أنه أحب فتاة وهو في السنة الأخيرة من كلية الآداب.. أحبها كثيرا..
بقدر ما أحب الشعر..
كان يهمس في أذنها بأشعار شوقي و جويدة ونزار..
لكنها لم تكن من فتيات الشعر..
تزوجت من آخر.. ممن يستخفون بالمشاعر و الحياة ..
والشعر ..
ممن يستخفون بكل شيء عدا المال..

لم يتخرج عبد الستار.. ولم يستطع أن يحب بعدها إلا في القصائد..
كان يكتفي بأشعار الحب.. ويشارك نزار في فتياته..

لم يكن يتأمل كثيرا..
لكنه تأمل الدنيا والطبيعة بعيون أبو ماضي..

لم يكن لديه حكمه الخاصة في الحياة..
لكنه اكتفى بحكمة المتنبي و صلاح عبد الصبور..
لم ينسى أبدا تلك الأبيات..
نتمنى وفي التمني شقاء.. وننادي يا ليت كانوا وكنا
وننادي في سرنا للأماني.. والأماني في الجهر يضحكن منا
غير أني وإن وددت التمني.. أتمنى لو كنت لا أتمنى


كما لم يكن متدينا.. ولم تقترب روحه كثيرا من القرآن..
ومع ذلك فهم الكثير عن دينه من بن مالك وحسان بن ثابت و غيره من شعراء الاسلام..
كان يستشعر في قصائدهم روعة التايخ الإسلامي وأمجاده..

كما لم يكن عبد الستار إنسانا وطنيا.. ولا يعرف معنى واضح للإنتماء..
لكن كانت وطنية جاهين تكفيه .. كان يعشقه .. كان دائما يقول إن شعره صالح لكل زمان ومكان..
لقد كان جاهين الأقرب إلى قلبه...

ورغم عشق عبد الستار المتناهي للشعر.. إلا أنه لم يكن بارعا في نظمه..ولم تكن أبياته موزونة جيدا.. لكنه دوما كان يصر أن يكتب.. و أن يلقي شعره ولو لمرآته..
وأن يسمي نفسه شاعر الزقاق المجهول..

وفي أحد أيامه المتشابهة.. كان عبد الستار ينظف حمّام الفندق حين سمع خبرا مفاجئ عن انعقاد مؤتمر للشعر في إحدى قاعات الفندق..
و عرف أنه سيستمر لأربعة أيام فقط .. وسيشارك به عدد من الشعراء الكبار من مختلف الدول العربية ..

وفجأة وبدون مقدمات.. قفزت إلى ذهنه فكرة جنونية.. أو هكذا استشعرها..
قرر أن يحاول عرض شعره على أحد شعراء المؤتمر.. بعد أن حاول مرارا أن يعرض موهبته على دور النشر المختلفة..
لكنه كان دوما ما كان يقابل إما بالرفض المباشر أو بالاستخفاف..
أو بالتجاهل في معظم الأحيان ..
لكنه قرر اليوم أن يحاول.. ماذا سيضيره إن حاول..
لكن ماذا يفعل؟؟
هل يدخل إلى المؤتمر كأحد المدعوين؟؟ أم هل ينتحل شخصية صحفي أو ناقد؟؟
لكنه أولا لا يملك دعوة..
ثانيا الكل يعرفه جيدا و إذا حاول انتحال شخصية صحفي أو ما شابه فحتما سيكشف أمره..
ثالثا.. هو لا يملك أجازة سوى يوم الجمعة.. وحينها سيكون المؤتمر قد انتهى..
ماذا يفعل؟؟
هل يحاول تبديل يوم عمله مع ( فتحي ) العامل الآخر عله يستطيع أن يوقف أحد الشعراء أمام الباب و يسمعه شعره..
ولكن ذلك الفتحي لا يحبه مطلقا.. ودوما ما كان ينعته بالحماقة و الجنون..
وبالتأكيد سوف يرفض لمجرد ( الغلاسة ) ليس أكثر..
ماذا يفعل؟؟

طرأت إلى ذهنه تلك الفكرة المجنونة.. أن يتآمر مع أحد العاملين في قاعة المؤتمر بأن يلقي في أكواب العصير الخاصة بالضيوف .. تلك الحبوب التي تساعد على تليين المعدة ومن ثم الإسهال الرهيب..

إن عبد الستار لا يحب الأذى للناس .. لكنه الآن أمام هدف نبيل ..
أمامه بريق أمل لم يلمحه منذ سنين.. وفرصة جائته من السماء على طبق طائر..
فلماذا لا يحاول!!؟
سارت الخطة كما يحب عبد الستار ويرضى..
وفعلا تناوب الشعراء واحدا تلو الآخر على حمّام عبد الستار .. والذي كان بجوار القاعة مباشرة..
وكلما دخل أحدهم إلى الحمّام قال عبد الستار بصوته الجهور..

( أنا عقلي أوضة مكركبة .. فيها الكراكيب من غير حساب ..)
( أنا عقلي أوضة مكركبة .. فيها الكراكيب من غير حساب..)

خرج الشاعر من الحمّام .. ينظر إلى عبد الستار بارتياب و دهشة ..
ثم تناول المناديل.. وبلا لأدنى اهتمام.. خرج...

دخل الآخر..
فليجرب عبد الستار بيتا آخر من قصيدته المحببة ..

( أنا عقلي أوضة مكركبة .. والأوضة مفيهاش نور..)
( أنا عقلي أوضة مكركبة.. والأوضة مفيهاش نور..)


خرج الآخر من الحمّام ..
ينظر إليه بإشفاق.. يهز رأسه ويرفع كتفيه متمتما: ( لا حول ولا قوة إلا بالله )..
ثم تناول المناديل.. و خرج...

دخل الشاعر الثالث..
إنه آخر أمل.. فليحاول التركيز هذه المرة .. فليحاول أن يرفع من نبرة صوته أكثر و أكثر..

( يا عقلي يانا .. يا أوضة مليانة .. بس الأوضة مفيهاش حد..)
( يا عقلي يانا .. يا أوضة مليانة.. بس الأوضة مفيهاش حد ..)


خرج الثالث..
قال له: ( مالك يابني!!؟؟ )
رد عبد الستار: أنا شاعر موهوب .. بس مغمور..
مغمور أوي ..
أخرج الشاعر من محفظته عشرة جنيهات .. ثم جفف يديه بالمجفف الكهربائي ..
وخرج .. ولم يعد ...

نظر عبد الستار إلى العشرة جنيهات..
ثم نظر إلى الأرض طويلا .. ثم رفع رأسه..
خلع ملابس العمل .. أمسك بجميع ( رولات المناديل ) و ألقى بها في المراحيض ..

ثم تناول قلم ( فلوماستر ) وجده في جيبه الأيمن.. وكتب على أبواب الحمامات ..

أنا عقلي أوضة مكركبة .. فيها الكراكيب من غير حساب ..
كل كركوبة في مكانها .. متلمعة ..
معليهاش تراب ..
نفسي ألم كل شيئ .. أشيله وأحطه في الدولاب ..
إلا كركوبة واحدة بس ..
عايزة تخرج من ألف باب...

أنا عقلي أوضة مكركبة .. والأوضة مفيهاش نور ..
جبت لمبة نيون .. وشمعة ..
وعود كبريت ..
و عود بخور..
لكن زرار اللمبة علق .. والشمعة دابت .. من سكات ...
و العود في الحال .. اتحال رماد ..
لا الشمس طلعت تملا نور ..
ولا فضلش في الأوضة غير شمعة دايبة..
وضلمة بهتانة..
وريحة بخور....

يا عقلي يانا .. يا أوضة مليانة..
بس الأوضة مفيهاش حد..
هتعيش لوحدك .. وتموت لوحدك ..
يا من الفهم .. يا من قلة الفهم ..
يا هتموت من البرد...
مش مهم بإيه تموت.. المهم السكوت..
هتموت يا عبده هتموت..
لو حطو على قبرك فسيخ ..
أو رشو ورد ....





قلم/ إيناس حليم

التسميات:

2 Comments:
لم اكن قد قرأت تلك القصة كاملة قبل النشر هنا
لكنى انبهرت بها عندما قرأتها
فهذا قلم ايناس شديد التميز
وابحارها القوى داخل مفردات الشخصية التى تقدمها لنا
وربما شعرت أن هذه القصة حقيقية تماماً
وربما لا اكون مخطيئ في احساسي
لأننى استشعر ان شعراء الحمامات كثيرون من حولنا..
لكنهم لا يجدون من يخرجهم منها..!!

:))
شكرا يا ماجد ربنا يخليك ده من ذوقك بس والله..
تعليقك ضحكني اوي :))
بصراحة انا مشفتش لحد دلوقتي ولا شاعر حمام بس شفت كتير زي عبد الستار

شكرا ليك تاني يا ماجد
ولك أجمل تحياتي